إن العراق المعاصر هو الوريث الطبيعي لسلسلة الأنظمة السياسية التي انبثقت من بلاد الرافدين، إذ يمكن لأي عراقي معاصر أن يرى في تاريخه مراحل مهمة كان فيها العراق كيانا سياسيا متميزا إلى جانب المراحل الأخرى التي تم دمج هذا الكيان في إطار أوسع.
سيلتفت القارئ في هذه السيرة إلى أمر جدير بالاهتمام والنقد الموضوعي، بأن صاحبها من البعثيين القلائل الذين اعترفوا بجسامة الممارسات الدموية التي ارتكبها حزبه خلال مسيرته لا سيّما أثناء سيطرته على السلطة في 8 شباط 1963، تجاه الشيوعيين وضد كل القوى السياسية والشعب العراقي عموما، فقد قال له وماعليه بكل أمانة وتجرد عن الانحياز، إذ انتقد بشدة رفاقه البعثيين بمثل ما انتقد به الشيوعيين، ولم يتورع عن إدانة حزبه بقدر إدانته للحزب الشيوعي، لأن كلا الحزبين، من وجهة نظره المنصفة، إنشغلا بصراعات جانبية ثأرية حاقدة، وأمعنا في فوضى الصراع على السلطة، ولم يقدما إلى العراق وشعبه طريقا ومسلكا واضحًا للخلاص. وما يحسب لصاحب هذه السيرة، أنه أدان نفسه بقسوة قبل أن يدينه أحد، وقدم اعتذاره إلى كل عراقي شعر في يوم ما أنه كان سببًا في اضطهاده. والحق أن تأخر الإعلان عن الاعتذار والإدانة خير من أن لا يأتيان أبدا.
بين يدي القارئ الجزء الثاني والأخير من مذكرات محسن الشيخ راضي التي يسجل فيها لمرحلة ثانية من حياته السياسية بعد فصله مع رفاقه البعثيين من حزب البعث العربي الاشتراكي الذين شكلوا من وبموازاته تيارا وحزبا بعثيا يساريا يتناقض كليا مع يمين البعث ومناهض لتوجهات ميشيل عفلق وكافرا بقيادته القومية اليمينية . ثم تبدأ تدريجيا مرحلة نضج فكري وسياسي أخرى تتحول فيه مجموعة من البعثيين اليساريين عن قناعة لمغادرة حزب البعث العفلقي ونبذه كليا وشطبه نهائيا من قاموسهم السياسي ، ليتحولوا نحو اعتناق الماركسية اللينينية ويتبنوا شكلها العربي بعد تعريب أسسها وأفكارها بما يخدم توجه التطلعات القومية العربية، حسب اعتقادهم، إيذانا بتأسيس حزب العمال الثوري العربي الذي أصبح فيه عضوا في قيادتيه القطرية والمركزية القومية.
من بين الكتب التي تجرأت،وبحثث، يأتي كتاب عالم النفس والباحث العراقي، الدكتور قاسم حسين صالح ليكشف لنا، وعبر ما هو شخصي، عن مرحلة تاريخية، غاية في الأهمية، وعن وقائع سياسية واجتماعية ودينية، تداخل فيها الانتماء الصادق بالمخاوف من بطش السلطة، واندمجت معه عادات وسنن وأعراف شعبية. فالكاتب يقدم لنا وعبر حياة طويلة مقطعًا عرضيّا، بالغ الجمال والأهمية من حياتنا، عبر لغة يومية مأنوسة، تستغور النفس وتمنحها زاداً ورقياً مختلفاً تماماً عن كثير مما قرأناه.