هناك ترابط وثيق بين حياة الكاتب وأعماله الفكرية حتى وإن كانت هذه الأعمال "بنت الخيال"، كما يقال. إذ لا بد من أن لها أو من ورائها، في هذه الحالة، صلةٌ ما بمعايشات الكاتب، أو قراءاته، أو "تهويماته" الخارجة على الواقع بدافع الهروب منه، أو تطويره، أو تغييره بما يتخيله الكاتب. ومن هنا، فإن التجربة الأدبية انعكاس لحياة الكاتب كلياً، أو جزئياً، أو هي النظير الأدبي لها، بتعبير آخر. وقد يكون هذا الانعكاس مباشراً، وقد يكون استلهامياً، أو مجازيا يستخدم فيه الرمز، واللاشعور، وغيره عند سؤال الشاعر الفرنسي بول فاليري حول الحالة المثالية التي يتفرغ فيها للكتابة، قال هناك فرق بين أن نفكر في شيء ونحن نمسك القلم، وبين أن نفكر به دون ذلك، وقد كان المطبخ هو المكان المناسب الذي يكتب فيه وليم فوكنر كتبه: "كنت أفضل أن أبقى في منزلي، في مطبخي مع كتبي وعائلتي من حولي، ويداي تلاعبان الأوراق".
يمكن تشبه بنية الفن في بلاد الرافدين بالمرجل الفوّار فما أن يستقر أسلوب خاص ويطبع الإبداعات الفنية بطابعه الخاص، سرعان ما يطفو على السطح أسلوب آخر يوحد الأشكال بنظم من العلاقات الشكلية الجديدة الخاصة به ومدعاة تلك التحوّلات المتصفة في معظم الأحيان بالتحديث: هو تحول منظومة العوامل المتحركة والمهيمنة في بنية الفن من حال إلى حال أخرى، إلا أن تلك الحيوية لم تستطع بما أُوتيت من قوة، أن تُطيح بخاصية وحدة الأسلوب التي تميّز الفن على هذه الأرض الطيبة المعطاء، فبقيت تعمل على وفق سمة التنوّع التي أثرت التجارب الفنية بمزيد من المفاجآت الفكرية والشكلية على حد سواء.
شهدت مدينة النجف الاشرف تحولات سياسية كبرى تبعًا لما شهده العراق وقتئذ، وكانت تتأرجح بين الهدوء وبين التحرك المناوئ للسلطة، واستخدمت الحكومة معها سياسة اللين في أغلب الأحيان، بسبب ثقلها الاجتماعي في العراق لوجود المرجعية الدينية فيها، لا سيما في تلك الفترة، كما سنشاهد ذلك من خلال سطور هذا الكتاب.